الحمدُ للهِ، وسلامٌ على عبادهِ الذين ٱصْطَفَى، أَمَّا بَعْدُ: فقد نُسِبَ إلى الإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري كتاب: (وصول المشتاقين ونزهة المستمعين)، وذكره كل من كتب له ترجمة من المحققين لكتبه، وكنتُ ذكرته في الترجمة التي كتبتها في صدر كتابه: (أخلاق حملة القرآن) قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة، ٱعتماداً على ما ورد في كتاب هدية العارفين، لإسماعيل باشا البغدادي، في قائمة مؤلفات الآجري التي أوردها في الكتاب (2/47)، وعَزَّزَ ذلك ما ذكره الدكتور فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي (1/391) من وجود نسخة مخطوطة من الكتاب في مكتبة أولو جامع في بورصة في تركيا. وكنت أشتغل في الفترة الأخيرة في مراجعة تحقيقي لكتاب (أخلاق حملة القرآن)، واستوقفني هذا الكتاب، فعنوانه غريب عن عناوين كتب الآجري، التي تتسم بذكر مسائل فقهية، وغلب عليها استعمال كلمات: أخلاق، وآداب، وأحكام، أما (وصول المشتاقين ونزهة المستمعين) فيبدو العنوان غير منسجم مع مجموعة مؤلفات الآجري، رحمه الله تعالى. وقد دفعني ذلك الشعور، والرغبة في الوقوف على مضمون هذا الكتاب، أن أزور مكتبة (Inebey) في بورصة، التي تضم مخطوطات مكتبة أولو جامع، وذلك في يوم (8/6/2022م)، بصحبة صديقي الدكتور عمر آيشام، بقصد الاطلاع على المخطوط، والوقوف على ما فيه، وقد ذكر الدكتور فؤاد سزكين أنه يحمل الرقم (2067/1) في المكتبة، ولم يتأخر موظف المكتبة في عرض المخطوط على شاشة الحاسوب. وشعرت بالابتهاج حين نظرت إلى صحيفة عنوان الكتاب، التي تتضمن عنوان الكتاب: (وصول المشتاقين ونزهة المستمعين) واسم المؤلف، وهو: (أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين الآجري)، والمشهور أنه: محمد بن الحسين بن عبد الله، وتتضمن صحيفة العنوان أيضاً اسم الناسخ، وهو: عبد الرحمن بن عمر البصروي، الذي كتب أنه عَلَّقَهُ لنفسه، لكن هناك عبارة تملك مكتوبة بخط مغاير حديث، وتاريخها شهر شوال من سنة 1094، وكان الدكتور فؤاد سزكين قد ذكر أنه من خطوط القرن السابعالهجري، وهذه صورة الصحيفة:
وذكر شمس الدين السخاوي في الضوء اللامع (11/191) أن (البُصْرَوِيَّ) نسبة إلى مدينة بُصْرَى الشام، وذكر أن ممن انتسب إليها: عبد الرحمن بن عمر بن عبد العزيز الدمشقي الشافعي، وابنه القاضي الفقيه شمس الدين محمد، وترجم لمحمد وذكر أنه ولد سنة 794، وأنه توفي سنة 871هـ. (ينظر: الضوء اللامع 7/295-297، وعمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 10/146-147). وقد يكون كاتب المخطوط عبد الرحمن البصروي، والد القاضي محمد، الذي ترجم له السخاوي. ويستغرق كتاب وصول العاشقين من المجموع خمساً وأربعين ورقة، ويليه كتاب الأربعين النووية، ويبدأ بالورقة 46ظ، وينتهي بالورقة 59و، وفي خاتمته ورد اسم الناسخ، وهو عبد الرحمن بن عمر البصروي نفسه، مع إثبات تاريخ النسخ، ويمكن قراءته على هذا النحو: (عاشر شهر ربيع الأول من شهور سنة ست [وثلاثين] وثمان مائة)، وهذه صورة ذلك في المخطوط: وقد يكون نسخ كتاب (وصول المشتاقين) في تاريخ قريب من تاريخ كتابة الأربعين النووية، فالناسخ واحد لكلا الكتابين. وبعد أن نظرت في الورقة الثانية من المخطوط، التي يبدأ بها نص الكتاب، لم يكتمل فرحي بالوصول إلى المخطوط، فقد شعرت بأن الكتاب ليس من تأليف الآجري، لاختلاف أسلوبه عن أسلوب الآجري، فلم يبدأ الكتاب بذكر اسمه، على عادته في مقدمات كتبه، واشتملت المقدمة على عبارات مسجوعة لا يستعملها الآجري في ما يكتب، وهذا نص ما بدأ به الكتاب: (الحمد لله الذي تَحَيَّرَ في بحار عظمته قلوب العارفين، وتَعَطَّرَ في بستان وَصْلِهِ نفوس العابدين، وتلاشت بكشف قدسه أرواح المحبين، وطاشت بنسيم أنسه صدور المنيبين، رَفَعَ السقف البديع فزينه للناظرين، وبسط الفرش المنيع فجعله (مثوى) للعالمين، فقال لها وللأرض ٱئْتِيَا طوعاً أو كرها، قالتا أَتَيْنَا طائعين... ). وهذه صورة الصحيفة الأولى من الكتاب: ولم يرد في داخل الكتاب ذكر للآجري، على عادته في كتبه، حين يقول: قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري. وبدأ المجلس الأول من مجالس الكتاب بعبارة: حدثنا الإمام أبو المغيرة بإسناده عن عبد الله بن مسعود، وتكرر ذلك في المجلس السابع، وبدأ المجلس الرابع بعبارة: قال الشيخ حامد بن إدريس، رحمه الله، قال حدثنا الشيخ الإمام أبو المغيرة، رحمه الله بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتكرر ذلك في أول المجلس الخامس، والمجلس السادس. وقد يكون مؤلف الكتاب حامد بن إدريس، الذي يروي عن شيخه أبي المغيرة، فمن هو حامد بن إدريس؟ روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (14/363) عن أبي سعد أحمد بن محمد بن أحمد الماليني المحدث الزاهد (ت 412)، قال: حدثنا أبو الحسن حامد بن إدريس بن محمد بن إدريس الموصلي بالموصل، فإن كان حامد هذا شيخ الماليني هو مؤلف الكتاب فيعني ذلك أنه عاش في أواخر القرن الرابع الهجري. وإذا كان أبو المغيرة الذي يروي عنه الشيخ حامد هو خطاب بن مسلمة بن سعد، أبو المغيرة الإيادي الفقيه الزاهد، المتوفى سنة 372هـ (ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي 8/373) فإن ذلك يؤيد ما ذكرتُ من أن حامد بن إدريس عاش في نهاية القرن الرابع الهجري. والذي يترجح عندي أن هذا الكتاب ليس من تأليف الآجري، فليس هناك ما يربطه بالآجري إلا ما ورد في صحيفة العنوان، وهو ليس كافياً في تأكيد نسبة الكتاب إليه، أما مؤلف الكتاب فقد يكون حامد بن إدريس الموصلي، لكن تأكيد ذلك يحتاج إلى مزيد بحث وتتبع، والله تعالى أعلم.